كيف نقرأ عقل الدولة الصهيونية؟ | سياسة

لم تكن اللحظات المعززة بالعزة والفخر التي شهدناها عند تسليم حركة حماس للأسرى الإسرائيليين عشوائية، بل كانت نتيجة لرحلة طويلة مليئة بالإنجازات والانتصارات التي حققتها المقاومة في صراعها المستمر مع الاحتلال، بينما كانت إسرائيل تتراجع إلى مواقع لم يكن أحد يتوقع الوصول إليها، وهو ما ينبغي علينا أن نتذكره.
عاشت غزة 15 شهرًا من القسوة والصراع، عانت خلالها من مذابح ممنهجة وإعدامات ميدانية، وتحولت أحياؤها إلى ساحات لمآسي مروعة، حيث تلاشت أشلاء الضحايا تحت وطأة عنف الإبادة الجماعية، وأصبحت الأجساد الرماد مكونة مشهدًا من الألم يفوق ما شهدته أعتى المعسكرات. أصبحنا نشاهد نوعًا جديدًا من الموت لم يسبق لنا أن تخيلنا وجوده حتى في أفظع قصص المحرقة أو في تلك المعتقلات القديمة في سيبيريا.
كما أكدت ذلك فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، حين أكدت أن إسرائيل ارتكبت بشكل مدبر ثلاثة أعمال إبادة جماعية، يتمثل ذلك في قتل الأفراد، وإلحاق الأذى الجسدي أو العقلي بهم، وإيجاد ظروف معيشية تهدف إلى تدميرهم كليًا أو جزئيًا.
رغم الفظائع التي تضرب قطاع غزة، والذي تجاوز درجة الهول في توقعاتنا، فإن العالم كان في حالة من الصمت المؤسف. لم يتحرك أقرباء الاحتلال الغاضبون، ولم يستنكر البعيدون من ذوي المجازر. بدلاً من ذلك، استمروا في تجاهلهم وكأن الموت هو أمر طبيعي. ومن المثير للدهشة عدم استغرابنا من تمسك العقل الصهيوني بحقه في الاستمرار في جريمة العربدة؛ فهو نهجها منذ الوهلة الأولى. لكن الأكثر إثارة للقلق هو هذا الاستعجال العالمي المريب لمشاهدة اللحظة التي تنقض فيها الفاجعة على غزة كما كان إخوته يوسف ينتظرون استلامه.
مبادئ سعار الفكر الاستراتيجي الصهيوني
للعودة إلى أصول هذا السعار، يجب أن ننظر إلى العام 1985، حين نشر مركز الدراسات الاستراتيجية بجامعة “تل أبيب” مجموعة من الأبحاث التي أعدها الخبير الإسرائيلي “دوف شافير” حول مستقبل السياسة العسكرية الإسرائيلية في منطقة شرق البحر المتوسط. وقد شملت تلك الأبحاث عدة مبادئ تبين جوهر الرؤية الصهيونية.
1- تقوم إسرائيل على مبدأ التوسع، وهو الأساس الذي لا يمكن التخلي عنه، حيث تواصل اقتطاع أجزاء من فلسطين ولبنان وسوريا.
2- تمكنت الاستراتيجية الإسرائيلية من الوقوف كدولة شرق أوسطية، وهو ما يتطلب منها اعتماد سياسة اقتصادية مسيطرة تضمن بقاءها بعيدًا عن الاعتماد الكلي على المساعدات الأميركية.
3- تتبع إسرائيل مبدأ الحروب الدورية كل حوالي عشر سنوات، حيث تدخل في عمليات عسكرية تتيح لها تحقيق فوائد استراتيجية وكذلك الحصول على تعاطف دولي، وقد شهدت المنطقة على مدار السبعين عامًا الماضية عدة حروب كان آخرها حرب غزة.
ومع تطورات العصر الحديث، تغير مفهوم الحرب الدورية، إذ زادت وتيرة الحروب بشكل ملحوظ، مثل الصراعات المستمرة مع غزة، الأمر الذي يعكس التحول الجذري في التفكير الصهيوني في السنوات الأخيرة.
تتعلق تلك التحولات بالأسئلة المحورية التي تطرحها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية حول كيفية تدخلها في النزاعات، وهي تعتمد بشكل أساسي على أن تكون هي المبادر ومن ثم تتفوق بشكل ساحق، وهذه القوانين العسكرية الجائرة تقود إلى انتهاكات خطيرة بحق المدنيين.
لا يفلّ السعار إلا سعار مثله
من الواضح أن حركة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول أحدثت شرخًا عميقًا في الرواية العسكرية الإسرائيلية، حيث كشفت عن مصداقية مراكز القوة العالمية.
على الرغم من الفاجعة الإنسانية، فإن المبادرة جاءت من الفلسطينيين، الأمر الذي جعل مشروع الاحتلال يتخبط في دوامة من الهزائم. أظهرت العمليات العسكرية الإسرائيلية ردود فعل حادة واعتداءات تتعاظم دلالاتها أمام المدنيين، حيث طالت المجازر جميع من في القطاع.
هذا جعل من الصعب على المؤسسة العسكرية تكوين استراتيجية واضحة، فالتخبط كان سمة بارزة خلال الأوقات الأخيرة، وهو ما أدى أيضًا إلى تنامي الانتهاكات ضد الطفولة والنساء.
ومع ذلك، يتجلى التحدي الأكبر للمؤسسة العسكرية الصهيونية في فشلها الذريع في القضاء على حركة حماس أو حتى تقليص قوتها؛ فالحركة اجتازت مراحل معقدة في التعامل مع التحديات واستطاعت تحويل نقاط ضعفها إلى نقاط قوة كبيرة، وهو ما يتمثل في عنادها أمام التحديات الثابتة.
ظلت مشاهد الدمار تتسارع، وقد جرت الرياح بما لا تشتهي القيادة الإسرائيلية. لقد أظهر الوضع أن الدعم العالمي لإسرائيل بدأ بالتراجع، حيث بدأت العديد من الدول تتخذ مواقف سلبية واتخذت القرارات التي تعكس ذلك. ومن المؤسف أن المخاطر الاقتصادية تتسارع بشكل أكبر.
من هنا، لن ننسى فكر الصهيونية ومعالمه الأساسية، فمن الضروري تذكر السياقات التاريخية التي أدت إلى تزعزع الرؤية الإسرائيلية، كونها تتواجد تحت ضغوط هائلة في ظل تعافي سريع للمواقف الفلسطينية. لقد بدأت الدول تتجه نحو نقطة واضحة من العدالة تجاه القضية الفلسطينية.
يمكننا القول بأن إسرائيل قد فقدت الحرب على غزة وخسرت المزيد من الأهداف، حيث عادت الأمور إلى نصابها بشكل محوري بعد تجارب صعبة، والتي أدت إلى تراجع سطوة الكيان الصهيوني وقوة آرائه. يمكن القول بأمان إن المقاومة قد نجحت في إعادة صياغة المفاهيم بشكل جذري.
إن الآراء في هذا المقال تعبر عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر التحرير.